فكم من حروفٍ تجرُّ الحتوفَ..
ومن ناطقٍ ودّ أن لو سَكَتْ
قال -صلى الله عليه وسلم-: (من صمت نجا) [أحمد والترمذي]
أي من صمت عن النطق بالشر،
قال الغزالي: "هذا من فصل الخطاب وجوامع كلمه صلى اللّه عليه وسلم وجواهر حكمه، ولا يعرف ما تحت كلماته من بحار المعاني إلا خواص العلماء...
عن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: عظني وأوجز، فقال: «إِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ، وَلَا تَكَلَّمْ بِكَلَامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ غَدًا، وَاجْمَعْ الْإِيَاسَ مِمَّا فِي يَدَيْ النَّاسِ» [رواه أحمد]
روي أنه التقى أربعة من أذكياء الملوك: ملك الهند، وملك الصين، وملك الفرس، وملك الروم .. فاجتمعوا على ذم الكلام ومدح الصمت، فقال أحدهم: "أنا أندم على ما قلت، ولا أندم على ما لم أقل" وقال الآخر: "إنّي إذا تكلمت بالكلمة ملكتني ولم أملكها، وإذا لم أتكلم بها ملكتها ولم تملكني" وقال الثالث: "عجيب للمتكلم، إن رجعت عليه كلمته ضرّته، وإن لم ترجع لم تنفعه"، وقال الرابع: "أنا على ردّ ما لم أقلّ أقدر مني على ردّ ما قلتُ"
جعل الله تعالى الصمت ستراً على الجاهل، وزيناً للعالم
.. روي أن رجلاً كان يجلس إلى أبي يوسف، تلميذ أبي حنيفة، ويطيل الصمت، فقال له أبو يوسف يوماً: ألا تتكلم؟ فقال بلى: متى يفطرُ الصائم؟ فأجابه: إذا غابت الشمس، فقال: فإن لم تغب إلى نصف الليل؟ فضحك أبو يوسف، وقال: لقد أصبت في صمتك وأخطأت أنا في طلبي لنطقك، ثم قال:
عجبتُ لأزراءِ العيي بنفسهِ ..
وصمتُ الذي كان بالصمتِ أعلما
وفي الصمتِ سترٌ للعيي ..
وإنما صحيفةُ لبّ المرءِ أنْ يتكلّما
قال -صلى الله عليه وسلم-:
- (رحم الله امرءا تكلم فغنم أو سكت فسلم) [صحيح الجامع:3492] وأفهم بذلك أن قول الخير خير من السكوت لأن قول الخير ينتفع به من يسمعه والصمت لا يتعدى صاحبه.
- (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت) [متفق عليه] قال القرطبي: "معناه أن المصدق بالثواب والعقاب المترتبين على الكلام في الدار الآخرة لا يخلو إما أن يتكلم بما يحصل له ثواباً أو خيراً فيغنم أو يسكت عن شيء فيجلب له عقاباً أو شراً فيسلم، وعليه فـ «أو» للتنويع والتقسيم، فيسن له الصمت حتى عن المباح لأدائه إلى محرم أو مكروه، وبفرض خلوه عن ذلك فهو ضياع الوقت فيما لا يعنيه، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه..